فصل: سورة الصف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 13):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}
كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم، فجاءت أم كلثوم، وهي بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد، فقالا: يا محمد أوف لنا بشرطنا، فقالت: يا رسول الله حال النساء إلى الضعف، كما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنقض الله العهد في النساء، وأنزل فيهن الآية، وحكم بحكم رضوه كلهم. وقيل: سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية، جاءت الحديبية مسلمة، فأقبل زوجها مسافر المخدومي. وقيل: صيفي بن الراهب، فقال: يا محمد اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت بياناً أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف، امرأة حسان بن الدحداحة، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان.
وقرئ: مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات، وامتحانهن، قالت عائشة: بآية المبايعة. وقيل: بأن بشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وقال ابن عباس: بالحلف إنها ما خرجت إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام. وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة وعكرمة: كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها، ولا لجريرة جرتها، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة. {الله أعلم بإيمانهن}: لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد، {فإن علمتموهن}: أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن، والحلول في قوم ليسوا من قومها، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر.
وقرأ طلحة: لا هن يحلان لهم، وانعقد التحريم بهذه الجملة، وجاء قوله: {ولا هم يحلون لهن} على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر، علم أنه لا حل بينهما البتة. وقيل: أفاد قوله: {ولا هم يحلون لهن} استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان. {وآتوهم ما أنفقوا}: أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية. قال ابن عباس: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد إمتحانها زوجها الكافر، ما أنفق عليها، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكان إذا امتحنهن، أعطى أزواجهن مهورهن.
وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين، فلا يرد عليه الصداق، والأمر كما قال قتادة، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين اياهن إذا آتوهن مهورهن، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان.
وقرأ الجمهور: {تمسكوا} مضارع أمسك، كأكرم؛ وأبو عمرو ومجاهد: بخلاف عنه؛ وابن جبير والحسن والأعرج: مضارع مسك مشدّداً؛ والحسن أيضاً وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ: تمسكوا بفتح الثلاثة، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا؛ والحسن أيضاً: تمسكوا بكسر السين، مضارع مسك ثلاثياً. وقال الكرخي: {الكوافر}، يشمل الرجال والنساء، فقال له أبو علي الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، جمع كافرة، وقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ قال أبو علي: فبهت فقلت: هذا تأييد. انتهى. وهذا الكرخي معتزلي فقيه، وأبو علي معتزلي، فأعجبه هذا التخريج، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعاً لموصوفها، أو يكون محذوفاً مراداً، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث. والعصم جمع عصمة، وهي سبب البقاء في الزوجية. {واسألوا ما أنفقتم}: أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم، {وليسألوا}: أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين.
ولما تقرر هذا الحكم، قالت قريش، فيما روي: لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: {وإن فاتكم}، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام، ما كان مهرها. قال الزمخشري: فإن قلت: هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس، وإن قل وحقر، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه. انتهى. واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار: أم الحكم بنت أبي سفيان، زوج عياض بن شداد الفهري؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية، زوج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ وعبدة بنت عبد العزى، زوج هشام بن العاصي؛ وأم كلثوم بنت جرول، زوج عمر أيضاً. وذكر الزمخشري أنهن ست، فذكر: أم الحكم، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود، وكلثوم، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي، أعطى أزواجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهورهن من الغنيمة.
وقرأ الجمهور {فعاقبتم} بألف؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني: بشد القاف؛ والنخعي والأعرج أيضاً وأبو حيوة أيضاً والزهري أيضاً وابن وثاب: بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة؛ ومسروق والنخعي أيضاً والزهري أيضاً: بكسرها؛ ومجاهد أيضاً: فاعقبتم على وزن افعل، يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر، ويقال: أعقب، قال:
وحادرت البلد الحلاد ولم يكن ** لعقبة قدر المستعيرين يعقب

وعقب: أصاب عقبى، والتعقيب: غزو إثر غزو، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففاً. وقال الزمخشري: فعاقبتم من العقبة، وهي النوبة. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الركوب وغيره، ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر. {فآتوا} من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا يؤتوه زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري، يعطي من صداق من لحق بهم. ومعنى أعقبتم: دخلتم في العقبة، وعقبتم من عقبه إذا قفاه، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه، وكذلك عقبتم بالتخفيف، يقال: عقبه يعقبه. انتهى. وقال الزجاج: فعاقبتم: قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، وفسر غيرها من القراءات: لكانت العقبى لكم: أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله: {إلى الكفار}، ظاهره العموم في جميع الكفار، قاله قتادة ومجاهد. قال قتادة: ثم نسخ هذا الحكم. وقال ابن عباس: يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: من مال الفيء؛ وعنه: من صداق من لحق بنا. وقيل: الكفار مخصوص بأهل العهد. وقال الزهري: اقتطع هذا يوم الفتح. وقال الثوري: لا يعمل به اليوم. وقال مقاتل: كان في عهد الرسول فنسخ. وقال ابن عطية: هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها. وقال أبو بكر بن العربي القاضي: كان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة. وقال القشيري: قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن.
{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك}: كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء، بعدما فرغ من بيعة الرجال، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط. وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن: كنت في النسوة المبايعات، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك نبايعك، فقال لي عليه الصلاة والسلام: «إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن» وكانت هند بنت عتبة في النساء، فقرأ عليهن الآية. فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئاً، قالت هند: وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال؟ تعني أن هذا بين لزومه. فلما وقف على السرقة قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان، لا أدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما عبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: {ولا يزنين}، فقالت: أوتزني الحرة؟ قال: {ولا يقتلن أولادهن}، فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {ولا يأتين ببهتان}، فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: {ولا يعصينك في معروف}، فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء
ومعنى قول هند: أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر. وقرأعليّ والحسن والسلمي: ولا يقتلن مشدداً، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة، وكانت العرب تفعل ذلك. والبهتان، قال الأكثرون: أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. {بين أيديهن وأرجلهن}: لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين. وروى الضحاك: البهتان: العضة، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته، أو ألحقت بها ولداً لم تلده. وقيل: البهتان: السحر. وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن؛ فروجهن. وقيل: بين أيديهن قبله أو جسة، وأرجلهن الجماع. ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها. وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم، فقيل لهم: لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد، لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم. وقال ابن عباس: كفار قريش، لأن كل كافر عليه غضب من الله. وقيل: اليهود والنصارى.
{قد يئسوا من الآخرة}، قال ابن عباس: من خيرها وثوابها. والظاهر أن من في {من أصحاب القبور} لابتداء الغاية، أي لقاء أصحاب القبور. فمن الثانية كالأولى من الآخرة. فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم. وقال ابن عرفة: هم الذين قالوا: ما يهلكنا إلا الدهر. انتهى. والكفار على هذا كفار مكة، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا: هذا آخر العهد به، لن يبعث أبداً، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن.
وقيل: من لبيان الجنس، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور، والمأيوس منه محذوف، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله، لأنه إذا كان حياً لم يقبر، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله، إذ هو متوقع إيمانه، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد. وقال ابن عطية: وبيان الجنس أظهر. انتهى. وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف. وقرأ ابن أبي الزناد: كما يئس الكافر على الإفراد. والجمهور: على الجمع. ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك موالاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم.

.سورة الصف:

.تفسير الآيات (1- 14):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
النداء ب {يا أيها الذين آمنوا}، إن كان للمؤمنين حقيقة، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب، وإن كان للمنافقين، فالمعنى {يا أيها الذين آمنوا}: أي بألسنتهم، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم، ولم يتعلق بالفعل وحده. ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف، والظاهر انتصاب {مقتاً} على التمييز، وفاعل {كبر}: أن {تقولوا}، وهو من التمييز المنقول من الفاعل، والتقدير: كبر مقت قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، أي بئس مقتاً قولكم كذا، والخلاف الجاري في المرفوع في: بئس رجلاً زيد، جار في {أن تقولوا} هنا، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: {لم تقولون}، أي كبر هو، أي القول مقتاً، ومثله كبرت كلمة، أي ما أكبرها كلمة، وأن تقولوا بدل من المضمر، أو خبر ابتداء مضمر. وقيل: هو من أبنية التعجب، أي ما أكبره مقتاً. وقال الزمخشري: قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله:
غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله، وأسند إلى {أن تقولوا} ونصب {مقتاً} على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته. انتهى. وقال ابن عطية: والمقت: البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت. انتهى. وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت، إذا كان يبغضه كل أحد. انتهى. وقرأ زيد بن عليّ: يقاتلون بفتح التاء. وقيل: قرئ يقتلون، وانتصب صفاً على الحال، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل، بنيان رص بعضه إلى بعض. والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل: المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. قيل: وفيه دليل على فضل القتال راجلاً، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة؛ وصفاً وكأنهم، قال الزمخشري: حالان متداخلان. وقال الحوفي: كأنهم في موضع النعت لصفاً. انتهى. ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون.
ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه: {لم تؤذونني}، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه، {وقد تعلمون}: جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع، والمضارع هنا معناه المضي، أي وقد علمتم، كقوله: {قد يعلم ما أنتم عليه} أي قد علم، {قد نرى تقلب} وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل، {فلما زاغوا} عن الحق، {أزاغ الله قلوبهم}. قال الزمخشري: بأن منع ألطافه، {والله لا يهدي القوم الفاسقين}: لا يلطف بهم، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره: أسند الزيغ إليهم، ثم قال: {أزاغ الله} كقوله تعالى: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} وهو من العقوبة على الذنب بالذنب، بخلاف قوله: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام. وهناك قال: {يا قوم} لأنه من بني إسرائيل، وهنا قال عيسى: {يا بني إسرائيل} من حيث لم يكن له فيهم أب، وإن كانت أمه منهم. ومصدقاً ومبشراً: حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية، ولمن تأخر من النبي المذكور، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته. وروي أن الحواريين قالوا: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: «نعم، أمة أحمد صلى الله عليه وسلم، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل» وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم، أو من أحمد أفعل التفضيل، وقال حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه ** والطيبون على المبارك أحمد

وقال القشيري: بشر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام. والظاهر أن الضمير المرفوع في {جاءهم} يعود على عيسى لأنه المحدث عنه. وقيل: يعود على أحمد. لما فرغ من كلام عيسى، تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا: {هذا سحر مبين}. وقرأ الجمهور: سحر، أي ما جاء به من البينات. وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب: ساحر، أي هذا الحال ساحر. وقرأ الجمهور: يدعى مبنياً للمفعول؛ وطلحة: يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى.
وقال الزمخشري: أيضاً، وقرأ طلحة بن مصرف: وهو يدعى بشد الدال، بمعنى يدعى دعاه وادعاه، نحو لمسه والتمسه.
{يريدون} الآية: تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة. وقال الزمخشري: أصله: {يريدون أن يطفئوا} كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لأكرمك، كما زيدت اللام في: لا أبا لك، تأكيداً لمعنى الإضافة في: لا أبا لك. انتهى. وقال نحوه ابن عطية، قال: واللام في قوله: {يطفئوا} لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير: يريدون أن يطفؤا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم، تقول: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصرت. انتهى. وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر، بل الأكثر: زيداً ضربت، من: لزيد ضربت. وأما قولهما إن اللام للتأكيد، وإن التقدير أن يطفؤا، فالإطفاء مفعول {يريدون}، فليس بمذهب سيبويه والجمهور. وقال ابن عباس وابن زيد: هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول. وقال السدي: يريدون دفع الإسلام بالكلام. وقال الضحاك: هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم بالأراجيف. وقال ابن بحر: إبطال حجج الله بتكذيبهم.
وعن ابن عباس: سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت واتصل الوحي. وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن: {متم} بالتنوين، {نوره} بالنصب؛ وباقي السبعة والأعمش: بالإضافة. وقرأ الجمهور: {تنجيكم} مخففاً؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر: مشدداً. والجمهور: {تؤمنون}، {وتجاهدون}؛ وعبد الله: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين؛ وزيد بن علي بالتاء، فيهما محذوف النون فيهما. فأما توجيه قراءة الجمهور، فقال المبرد: هو بمعنى آمنوا على الأمر، ولذلك جاء يغفر مجزوماً. انتهى، فصورته صورة الخبر، ومعناه الأمر، ويدل عليه قراءة عبد الله، ونظيره قوله: اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه، أي ليتق الله، وجيء به على صورة الخبر. قال الزمخشري: للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين، ونظيره قول الداعي: غفر الله لك ويغفر الله لك، جعلت المغفرة لقوة الرجاء، كأنها كانت ووجدت. انتهى. وقال الأخفش: هو عطف بيان على تجارة، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغا

يريد: أن احضر، فلما حذف أن ارتفع الفعل، فكان تقدير الآية {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}: إيمان بالله ورسوله وجهاد.
وقال ابن عطية: {تؤمنون} فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون. انتهى، وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر، وذلك لا يجوز. وقال الزمخشري: وتؤمنون استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تؤمنون، ثم اتبع المبرد فقال: هو خبر في معنى الأمر، وبهذا أجيب بقوله: {يغفر لكم}. انتهى. وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر، التقدير: لتؤمنوا، كقول الشاعر:
قلت لبواب على بابها ** تأذن لي أني من أحمائها

يريد: لتأذن، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد، وعلي تقدير المبرد. وقال الفراء: هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله: {هل أدلكم}، واستبعد هذا التخريج. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال المهدوي: إنما يصح حملاً على المعنى، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله: {هل أدلكم}، كأن التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قال: هل تؤمنون وتجاهدون؟ قال: فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح، لأنه يصير: إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة. وقال الزمخشري نحوه، قال: وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قال: هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ انتهى، وتقدم شرح بقية الآية.
ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة، ذكر ما يسرهم في العاجلة، وهي ما يفتح عليهم من البلاد. {وأخرى}: صفة لمحذوف، أي ولكم مثوية أخرى، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة. فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم، وهو قول الفراء، ويرجحه البدل منه بقوله: {نصر من الله}، و{تحبونها} صفة، أي محبوبة إليكم. وقال قوم: وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل، أي ويمنحكم أخرى؛ ونصر خبر مبتدأ، أي ذلك، أو هو نصر. وقال الأخفش: وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال. وقرأ الجمهور: {نصر} بالرفع، وكذا {وفتح قريب}؛ وابن أبي عبلة: بالنصب فيها ثلاثتها، ووصف أخرى بتحبونها، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك، وهو الإيمان والجهاد. وقال الزمخشري: وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل، قال: فإن قلت: لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت: يجوز أن ينصب على الاختصاص، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً، أو على {يغفر لكم} و{لهم جنات} ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً.
فإن قلت علام عطف قوله: {وبشر المؤمنين}؟ قلت: على {تؤمنون}، لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. انتهى.
{كونوا أنصار الله}: ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم، وإن كان قد صار عرفاً للأوس والخزرج، وسماهم الله به. وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان: أنصاراً لله بالتنوين؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة: بالإضافة إلى الله، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى. وقال مكي: نعت لمصدر محذوف، والتقدير: كونوا كوناً. وقيل: نعت لأنصاراً، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال: {من أنصاري إلى الله}. انتهى. والحواريون اثنا عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى، بثهم عيسى في الآفاق، بعث بطرس وبولس إلى رومية، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وبوقاس إلى أرض بابل، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف، ويعقوبين إلى بيت المقدس، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط، فليلتمس ذلك من مظانه. {فأيدنا الذين آمنوا بعيسى على عدوّهم}: وهم الذين كفروا بعيسى، {فأصبحوا ظاهرين}: أي قاهرين لهم مستولين عليهم. وقال زيد بن عليّ وقتادة: ظاهرين: غالبين بالحجة والبرهان. وقيل: أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين، والله أعلم.